سكون الارض وحركتها
ومن مشاهد الأرض أننا نراها ساكنة لا حركة فيها ولا حياة، فإذا نزل عليها الماء اهتزت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج
قال الله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير)
وقال ايضا :(وترى الارض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج).
واهتزاز الأرض تحركها بالنبات، وإحياؤها بعد موتها، ومعنى (ربت) أي: ارتفعت لما سكن فيها من الثرى، ثم أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح والأشكال والمنافع. والخشوع: التذلل والتقاصر؛ فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى: (وترى الارض هامدة) وهو خلاف وصفها بالاهتزاز، والربو هو الإنتفاخ إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات، كأنها بمنزلة المختال في زيه، وهى قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثّة. وقرئ (وربأت) أي: ارتفعت؛ لأن النبت إذا هم أن يظهر ارتفعت له الأرض).
وهكذا وصف الله تعالى الأرض بأنها ميتة، وأنه يحييها بالماء الذي يجعلها تهتز وتربو، أى: تتحرك وتنمو، وهذه الحركة العجيبة سجلها القرآن الكريم قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام؛ فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز، وهى تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تحيا بما تنبت من كل زوج بهيج، وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد السكون، وتنتفض بعد الهمود.
وهكذا نجد أن القرآن قد عبر عن الأرض قبل نزول الماء، وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها: (هامدة) ومرة بأنها (خاشعة)، والتعبيران يوحيان بالسكون الذي ما يلبث أن يهتز ويتحرك إذا ابتلت الأرض بالماء. وبذلك ترتسم لنا معالم الصورة، ويبدو لنا ما خفي عن إدراكنا للحركة الدائبة تحت سطح الأرض؛ فنعلم أن كل المراعي الخضر الزاهرة الوادعة في مظهرها، إنما تخفي تحتها حياة وحركة ونموا بما يمتد في باطن الأرض من جذور، وبما ينبت فوقها من نبات يتغذى منها ويعلو ويثمر.
قال تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ، ليأكلوا من ثمره وماعملته أيديهم أفلا يشكرون) وقال تعالى: (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون).
فالماء حين يصيب الأرض يبعث فيها الخصب، و تموج صفحتها بالحياة المنبثقة النامية.. ورؤية الزرع النامي، وتفتح الزهر، ونضج الثمر اليانع، وتزين الأرض بمختلف الألوان مشاهد تلفت العين والقلب إلى القدرة المبدعة؛ ففي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة، وفي كل لحظة يجفّ أعواد وشجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام، ومن خلاَل الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة الإنبات، ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة، وتستعد للإخصاب، وفي كل لحظة تدب الحياة في نبات أو حيوان، ويتم التحول من خاصية إلى أخرى..، وإنها لمعجزة لا يدري سرها أحد، ولا يملك صنعها إلا خالق الأكوان؛ ولذا حرص القرآن على توجيه القلب البشري لهذا المشهد المتكرر: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذلكم الله فانى تؤفكون)
فهذا إثبات قاطع أن الأرض الميتة تخرج النبات الحيّ يتغذى وينمو ويثمر ويموت، جاء في الكشاف: (يخرج الحى من الميت): أي الحيوان والنامي من النطف والبيض والحبّ والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي.
فالحبّ الساكن، والنوى الهامد وهو يفلق باطن الأرض ليخرج منه نبات حي، مشهد يتكرر في كل لحظة.. وفي الشجرة الصاعدة، والنبتة النامية تعبير عن معجزة الحياة نشأة وحركة، وعَلى سرٍّ مكنون لا يعلم حقيقته إلا الله.. وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الأشياء وأشكالها، وبعد ما درست من خصائصها وأطوارها.. تقف أمام السرّ المغيب كما وقف الإنسان الأول؛ تدرك الوظيفة والمظهر، وتجعل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها، والمعجزة تقع في كل لحظة!!..
ولعل في تنويع نسق التعبير بين (يحرج) و(مخرج) إيقاظا للحس حتى يلتفت للقدرة الباهرة، وهو يعرض آيات الله في الكون.
م/ن
دمتم بحفظ الله ورعآيته