فإذا كنت ممن يفكِّر فأنت ممن يخشى ، وإذا كنت ممن يخشى فهذا القرآن لك ، فاقرأه وتدبَّر آياته ..﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾
ولذلك يقول الله عزَّ وجل في آياتٍ أخرى :﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10)﴾
( سورة الأعلى ) هذا المفكِّر يتذكَّر ، ومن السُخْفِ بالمرء أن يستخدم هذا الفكر العظيم ، الذي هو أثمن شيءٍ في الوجود لأغراض رخيصة ، أو لأهداف خسيسة ، ولمطالب محتقرة ، فالله كرَّمك بهذا الفكر من أجل أن تعرفه به..﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾
أي يا أيها النبي الكريم لا تتعب نفسك مع هؤلاء الذين لا يفكِّرون ، ولا تجهد نفسك معهم ، لأنه لا جدوى منهم ، ومن لم يفكِّر فأنت لن تستطيع أن تؤثِّر فيه ، ما دام قد عطَّل تفكيره ، ولذلك فربنا عزَّ وجل قال :﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
( سورة محمد )﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)﴾
( سورة الصافات )﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)﴾
( سورة التكوير )﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32)﴾
( سورة يونس )﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ(6)﴾
( سورة الجاثية )﴿ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ(58)﴾
( سورة غافر )﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾
الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الكون :1 - بعض مظاهر الإعجاز العلمي في الكون : فماذا أقول في هذه الآية ؟ هل نعلم ممن هذا الكتاب ؟ ومن عند مَنْ أتى ؟ من عند الذي خلق السماوات والأرض ، ماذا نعلم عن السماوات ؟ المجرّات : ومن منا يصدِّق أن الرقم التقديري الأولي أن في الفضاء الخارجي ما يزيد على مليون مليون مجرَّة ، أي واحد أمام اثني عشر صفراً ، وفي المجرَّة والواحدة ما يزيد على مليون مليون نَجم ، وبعض هذه النجوم المعتدلة يزيد حجمها على حجم الأرض والشمس مع المسافة بينهما .الشمس : والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، أي أن الشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض ، وبين الشمس والأرض مئةٌ وخمسون مليون كيلو متر يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، وهذا الكوكب المتوسِّط في برج العقرب واسمه قلب العقرب .. يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، وأن بعض هذه المجرَّات يبعد عنَّا ستة عشرة ألف مليون سنة ضوئيَّة . وأن الإنسان حينما اجترأ وقال : غزونا الفضاء ، ما قطع من الفضاء الخارجي إلا ثانيةً ضوئيَّةً واحدة ، في حين أن بعض المجرَّات يزيد بعدها عنا عن ستَّة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة . والذي خلق المجرَّات وخلق الأرض والسماوات هذا كلامه ، وهذا كتابه ، وهذا المنهج الذي ينبغي أن نسير عليه ، وهذا هو كتابنا وهادينا إليه ، فلذلك شرفُ الرسالة من شرف المُرسل ، فإذا كنت في الخدمة الإلزامية ، وجاءتك ورقةٌ من عريف ، لك موقفٌ منها ، فإن جاءتك من رقيب فلك موقفٌ آخر ، فإن جاءتك من الملازم ، أو ممن هو أعلى ، فإن جاءتك من قائد الجيش ، وقد وُقِّعَتْ بالأخضر فلك موقفٌ آخر، فإن جاءك هذا الكتاب من ملك الملوك ، من خالق السماوات والأرض ، ممن بيده حياتك وموتُك ، ممن بيده كل شيء ، فما موقفك ؟ أتلقيه وراءك ظهرياً ؟﴿ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)﴾
( سورة الفرقان ) شرف الرسالة من شرف المُرسل ..﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾
القرآن مفتاحُ سعادتِنا : والله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا عظمة هذا الكتاب ، ولو عرفنا تماماً أنه كلام رب العالمين ، وأن كل سورةٍ ، بل كل آيةٍ ، بل كل كلمةٍ ، بل كل حرفٍ ، بل كل حركة من حركات هذا القرآن مفتاحٌ لسعادتنا ، ومنهجٌ لنا ، لكان أمرنا غير ما ترون ، آيةٌ واحدة :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي ﴾
( سورة النور : من آية " 55 " ) كم يعاني الناس من مشكلات ؟ فلو أن الإنسان قرأ القرآن ، وأيقن أن هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، وأنه لا محالة واقع ، فماذا يفعل ؟ وماذا ينتظر ؟ ..﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
( سورة النحل : من آية " 97 " ) ولو أن الإنسان قرأ القرآنَ ، وهو موقنٌ بأن هذا الكلام كلام الله رب العالمين ، وأن هذا الكلام حقٌّ لا مِرْيَةَ فيها ولا شكَّ فيه ..﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ﴾
( سورة فصلت : من آية " 43 " ) ولو قرأ قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
( سورة طه ) فلو ملكت الملايين ، أو طرت إلى السماء ، ولو فعلت الأفاعيل ، ما لم تكن مقبلاً على الله عزَّ وجل ، فهذا الإنسان أشقى الأشقياء ، وهذا كلام رب العالمين ، ولو قرأت قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) ﴾
( سورة الجاثية ) لاختلفت حياتك ، ولذلك فما هو أملك حيال هذه الآية ؟ هذا الكتاب..﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾
( سورة الحشر : من آية " 21 " ) على جبل ، وبعض الناس يقرؤونه ، وهم ساهون لاهون ، يقرؤونه ولا يعملون بأحكامه ، لا يحِلُّون حلاله ، ولا يحرِّمون حرامه ، ولا يتعظون بأخباره ، ولا يخافون وعيده ، ولا يرجون وعده ، يقرؤونه تبرُّكاً ، أو يقرؤونه تعبُّداً ، وهم عنه غافلون . و((ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))
و((مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ))
( سنن الترمذي عَنْ صُهَيْبٍ )﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
معنى الاستواء بين مذهب السلف ومذهب الخلَف : سُئِلَ الإمام مالكٌ رضي الله عنه عن هذه الآية فقال : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة " ، لأن هذا السؤال متعلِّقٌ بذات الله عزَّ وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نفكِّر في مخلوقات الله ، أما التفكُّر في ذاته فقد يودي بنا إلى الهلاك ، على كلٍ فهناك مذهب الخلف ومذهب السلف في تفسير هذه الآية .. السلف الصالح قال : " هذه الآية يجب أن نفهمها من غير تكييف.. أي كيف استوى على العرش ؟ ومن غير تحريف ، ومن غير تشبيه .. أي هل هو كالملك يجلس على كرسي العرش ؟ لا .. ومن غير تعطيل لهذه الآية ، ومن غير تمثيل "، لا تمثِّل ، ولا تعطِّل ، ولا تُشَبِّه ، ولا تحرِّف ، ولا تكيِّف ، هذا مذهب السلف الصالح في فهم هذه الآية . وأما مذهب الخلف أيضاً فمذهبٌ مقبول ، الخلف يقولون : " هذه الآية كنايةٌ عن الاحتواء على المُلْك ، والأخذ بزمام الأمور كلِّها " ، أي أن الله سبحانه وتعالى محيطٌ بالكون ، والله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، وتوحيد الربوبيَّة في هذه الآية ، فهو الذي خلق ، وهو الذي أمدَّ ، وربَّي ، وأعطى ، ومنع ، وعَلا ، وقَهَر ، وأخذ ، ورفع ، وخفض ، فكل شيءٍ بيده .﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
استواءٌ بمعنى السيطرة والأخذ بزمام الأمور ، هو الواحد القهَّار . لكنَّ الذي يجذب النظر أن الله سبحانه وتعالى لم يقل : الله على العرش استوى ، ولم يقل : القوي على العرش استوى ، ولم يقل : الغني على العرش استوى ، ولم يقل : الربُّ على العرش استوى ، بل قال :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
سرُّ اقتران الاستواء باسم الرحمن : فأقرب اسمٍ من أسماء الله الحُسنى اسم الرحمة ، فهذا الذي خلق الكون رحيم ، والذي يحرِّك الأجرام السماويَّة رحيم ، والذي يسوق الرياح رحيم ، والذي يُنْزِلُ الأمطار رحيم ، والذي بيده كل مخلوقٍ رحيم ، أي اطمئن أيُّها الإنسان الأمور بيد الرحمن الرحيم ..﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
وشيءٌ آخر : هو أن الله سبحانه وتعالى رحمنٌ في ذاته ، رحيمٌ في أفعاله ، العرش هو المُلْك ..﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾
( سورة آل عمران : من آية " 26 " ) وقد جاء في بعض الأحاديث القدسيَّة : " أنا ملك الملوك ومالك الملوك قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسُخط والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بالملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم " . هو ملك الملوك ، ومالك الملوك ، وبيده كل شيء صغاًرٌ كان أو كبيراً ، جليلاً كان أو حقيراً .﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
من لوازم الاستواء الملكية المطلة للكون خَلقا وتصرفا ومصيرا : ومن لوازم الاستواء له ، هذه اللام لام الملكيَّة ..﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾
ولا توجد آية شاملة شمول هذه الآية ..﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾
قال العلماء : " له بمعنى أن ما في السماوات وما في الأرض تعود إليه مُلْكِيَّتها ، ويعود إليه التصرُّف فيها ، ويعود إليه مصيرها " ، وهذا أوسع أنواع الملكيَّة ، لأنك قد تملك بيتاَ ، ولست تنتفع به ، فأنت مؤجَّره ، وقد تنتفع بالبيت ولا تملكه ، وقد تملكه وتنتفع به ، ولكن لا تدري أيصدر قرارٌ باستملاكه ؟ إذ ليس لك مصيره ، أما أن تملك الشيء وأن تكون حرَّاً في التصرُّف فيه ، وأن يكون إليك مصيره ، فهذا أوسع أنواع المُلكيَّة ، فالعلماء حينما قالوا : له بمعنى له ملكاً وتصرُّفاً ومصيراً..﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾
من النجوم ، والمجرَّات ، والكواكب ، والمذنَّبات ، والكازارات ، والثقوب السود في الفضاء الخارجي ، هي أماكن ضغط عالٍ جداً في الفضاء الخارجي ، فلو دخلت الأرض أحد الثقوب السوداء .. دقِّقوا في هذا الكلام .. لأصبح حجمها كحجم البيضة ، وبقي وزنها كما هي .. الأرض بأكملها .﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾
من ثقوب سود ، ومن كازارات ، ومن مجرَّات ، ومن نيازِك ، ومن مذنَّبات ، ومن فضاء ، ربنا عزَّ وجل قال :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)﴾
( سورة الواقعة ) المواقع وحدها ، هذه المسافات التي بين النجوم ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، إذا أحب أحدكم ليلاً أن يتسلَّى بعد الدرس ، ضرب ثلاثمئة ألف كيلو متر ، وهذا ما يقطعه الضوء في ثانيةٍ واحدة ، ضربها بستين دقيقة ، ثم ضربها بستين فصارت ساعة ، ثم ضربها بثلاثمئة وخمسة وستين فصارت سنة ، ثم ضربها بستة عشر ألف مليون سنة فيظهر رقم يحتاج إلى كرار ، ولذلك فهذه المسافات البينيَّة بين النجوم لا يعلمها إلا الله ..معنى : وَمَا تَحْتَ الثَّرَى قال : وما تحت الثرى هذه إشارةٌ دقيقةٌ جداً إلى أن تحت الثرى هناك الثروات ، والمعادن ، والفوسفات ، والبترول ، ومناجم الحديد ، ومناجم الفحم ، ومناجم النحاس ، ومناجم المعادن الثمينة واليورانيوم ..﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾
وأحياناً يقال لك : هذه صحراء ، ونظنُّها صحراء ، فإذا هي مستودعات للمعادن ، والفِلْزات ، والأشياء الثمينة التي لا يعلمها إلا الله .﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
يعلمُ السّرَّ وأخفَى : أي إن جهرت بالقول أو لم تجهر ، أو إن تنحَّيْتَ مع إنسانٍ إلى مكانٍ بعيدٍ عن الناس ، إلى أرضٍ خاليةٍ عنهم ، وأسررت له كلاماً فإن الله يعلم ذلك .قصة وعبرة : سبحان الذي وسع سمعُه كلَّ شيء : صفوان بن أميَّة أخذ عُمَيْر بن وهب إلى خارج مكَّة ، إلى الصحراء ، فقال له عمير : " والله لولا خشية العَنَتِ على أطفالٍ صغار ، ولولا ديونٌ ركبتني لذهبتُ إلى محمدٍ وقتلته وأرحتكم منه " ، شخصان لا يعلم بوجودهما إلا الله ، فقال له صفوان : " أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي علي بلغت ما بلغت فامضِ لما أردت .. اقتله وأرحنا منه .. " . فما كان من عمير إلا أن حمل سيفه وسقاه سمَّاً ، وجهَّز راحلته وتوجَّه إلى المدينة .وفي المدينة رآه سيدنا عمر متنكِّباً سيفه فقال : " هذا عدو الله عُمَيْر جاء يريد شرَّاً " ، أخذ سيفه وقيَّده بحماَّلة السيف ، وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، الأمر كان بُعَيْد معركة بدر ، بمعنى مجيء عمير إلى المدينة مغطَّى بسبب فَكِّ أخيه من الأسر ، فلمَّا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام قال له النبي الكريم : " فكَّ أسره يا عمر " .. فكَّ قيده .. ففَكَّ قيده ، ثم قال : " ابتعد عنه " ، فابتعد عنه ، قال : " ادنُ مني يا عمير " .. تعال .. قال : " سلِّم علينا " قال : " عمت صباحاً يا محمَّد " ، قال : " سلِّم علينا بسلام الإسلام " ، فقال عمير : " لست بعيد عهدٍ بالجاهلية " .. هذا سلامي .. فقال له النبي الكريم : " يا عُمير ما الذي جاء بك إلينا ؟ " ، قال : " جئت أفكُّ أخي من قيد الأسر " ، قال : " وهذا السيف الذي على عاتقك لماذا جئت به؟!" ، قال : " قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟! " ، قال : " ألم تقل لصفوان : لولا ديونٌ ركبتني ، وأطفالٌ أخاف عليهم العنت لقتلت محمَّداً ، وأرحتكم منه ؟ " .﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
فوقف عمير وقال : " أشهد أنَّك رسول الله ، والله الذي قلته ما علمه إلا الله وأنت رسوله " ، صار هذا دليلاً قطعيَّاً ، فصفوان امتلأ قلبه فرحاً ، لأنه بعد أيامٍ قليلة سيأتي النبأ السار ، وهو قتل محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان يقول للناس في مكَّة : " انتظروا أخباراً سارَّةً بعد أيَّام " ، مضى يومان وأربعة ، وخمسة وستَّة ، ومضى أسبوع وآخر ، وهذه الأخبار السَّارة لم تصل إلى مكة ، فكان يخرج إلى ظاهر مكَّة ويسأل القوافل : "ماذا عندكم من أخبار ؟ وماذا حدث في المدينة ؟ " لم يحدث شيء ، " ما أخبار عمير ؟ " ، قيل له : " لقد أسلم " ..﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
تتكلَّم بصوت عال ، تتكلَّم هَمساً ، تأخذ أخاً ، أو تأخذ صديقاً إلى مكان خالٍ من الناس ، تُحْكِم إغلاق الأبواب ، وتُسِرُّ له في أذنه ..﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
تفكِّر في نفسك ، تضمر نيَّةً ، العلماء قالوا : " السِر ما كان بينك وبين إنسان ، والذي هو أخفى من السر ما كان بينك وبين نفسك "، وبعضهم قال : " لا ، السر ما كان بينك وبين نفسك ، وأما الأخفى فهو الذي يخفى عنك أنت " ، لا تعلمه ، لذلك قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه : " علم ما كان ، وعلمَ ما يكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون " .
قد يقول أحدكم : أنا بهذا الوضع مستقيم ، فلو معي ألف مليون الله أعلم ، يا ترى تبقى معنا في هذا المسجد ؟ لا نعرف ، من الذي يعرف ؟ الله عزَّ وجل ـ وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ـ ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني .
الآية الأخيرة :﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾
المنفرد بالألوهية : الله اسم الذات صاحب الأسماء الحسنى ..﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾
الإله المُنْفَرِد بالتسيير ، والذي ينبغي أن تعبده وحده ، والذي يستحقُّ أن تعبده هو الله وحده ، والمنفرد بالتسيير هو الله وحده ..﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾
أي ليس في الكون من إلهٍ إلا الله ، والإله هو الذي يسيِّر ، وهو الذي يُعْبَد بالمقابل ، يُعْبَد لأنه يسير ، ولأن الأمر كلَّه بيده إذاً ينبغي أن يُعْبَد ..﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
( سورة هود : من آية " 123 " ) لماذا ينبغي أن تعبده ؟ لأن الأمر كلَّه راجعٌ إليه ، وما دام الأمر راجعاً إليه في كل شيء إذاً ينبغي أن تعبده .﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
( سورة مريم : من آية " 65 " )﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(65)﴾
( سورة مريم ) مشابهاً ، ندًّا ، كُفُؤاً ..﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾
أسماء الله كلّها حسنى : أسماؤه كلُّها حسنى ، وصفاته كلُّها فُضلى ، حتى ما يبدو لك ، الجبَّار ، المنتقم .. مثلاً .. المُعطي ، المانع ، هو يمنع ليُعطي ، فهناك خطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام يوضِّح ذلك ، قال :(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ))
( ورد في الأثر ) إذا أخذ الله منك شيئاً ليعطيك أضعافاً مضاعفة ، يبتلي ليجزي ، ويمنع ليعطي ، الضار النافع ، يضرُّ لينفع ، فالإنسان الضال الله عزَّ وجل قد يضرُّه في صحَّته ، أو بماله ، فيتوب إليه ، فيستقيم على أمره فيسعد بقربه ، فالمعطي والمانع ، والخافض والرافع ، يخفض ليرفع ، والمعز والمذل ، يذل ليعز ، المتكبر يذلُّه الله عزَّ وجل ليخضع له ، فإذا خضع له أعزَّه ، وهكذا أسماء الله كلِّها حسنى ، وصفاته كلُّها فُضلى ، ولكن اسأل به خبيرا، وربنا عزَّ وجل قال :﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43)﴾
( سورة النحل ) لا تسمح لنفسك أن تفهم الاسم الإلهي لوحدك ، قد لا تفهم أبعاده ، فالعلماء قالوا : هناك أسماءٌ لله عزَّ وجل يجب أن تُذكَر مَثنى مثنى " المعطي المانع ، الضار النافع ، المعز المذل لأنه يذل ليعز ، ويمنع ليعطي، ويخفض ليرفع ، ويضر لينفع ، وقد يقهر عبده ، القهَّار ، هذا العبد متكبِّر فيقهره ليتوب ، وهكذا ..﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾
وفي الدرس القادم إن شاء الله عزَّ وجل نبدأ بقصَّة سيدنا موسى ، وفي هذه السورة وردت بأطول روايةٍ لها ، فأطول قصَّة عن سيدنا موسى جاءت في هذه السورة ـ سورة طه ـ وسوف نستعين بالله عزَّ وجل على توضيح بعض المعاني .والحمد لله رب العالمين
المصدر: http://www.nabulsi.com/blue/ar/te.php?art=2309