العلاقة بين الإسلام والصحة النفسية تكمن في مفهومين وهما :
1ـ هي علاقة الكل بالجزء .
2ـ هي علاقة الثابت بالمتغير .
وعلى هذا ، فحدود الإسلام تشمل الصحة النفسية وحدود الصحة النفسية لا تشمل الإسلام .
والإسلام دين خالد باق ، والصحة النفسية قواعدها متغيرة تختلف مع تقدم العلم والمعرفة وتختلف مع العمر من مرحلة إلى مرحلة وتختلف مع الزمن من جيل إلى جيل ، ومن مفهوم أو مدرسة إلى مفهوم ومدرسة .
الإسلام عقيدة والصحة النفسية علم والعقيدة دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والصحة النفسية كعلم معرض للخطأ والصواب تحكيما وطريقا وتعديلا .
الإسلام والنفس :
ابتداء ينبغي أن نقرر أن القرآن كتاب عقيدة وليس كتاب علم وأن ما ورد به من معارف علمية كانت على سبيل ضرب الأمثال ، قال تعالى : { ويضرب الله الأمثال للناس } سورة النور . وعلى هذا فلا نتصور أن الإسلام بالتالي علم يتصدى للقضايا العلمية . وإنما هو منهج حياة وأنه في هذا المنهج يعتمد على جملة قضايا يحددها سبيلا واضحا . قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } . سورة الأنعام
ونورد هنا نظرة الإسلام إلى بعض المفاهيم النفسية كما نتصور ، وهي محاولة للاجتهاد فنعرض للصواب والخطأ .
أ ـ مفهوم النفس :
النفس كما يتحدث عنها علم النفس مشكلة موضع خلاف فبعض الباحثين يعرفون النفس على أساس تركيبي وبعضهم يعرفها على أساس وظيفي .
1ـ الأساس التركيبي :
أكثر التوصيفات التركيبية شيوعا للنفس هي ما أشارت إليه مدرسة التحليل النفسي أن اعتبار النفس تركيب من أجزاء هي : الهوID ، و الأنا Ego ، والأنا الأعلى Superego ، وأن هذا التركيب بمكوناته هو ما يمكن أن نعتبره النفس ومن الطبيعي أن يكون لهذا التركيب البسيط جزئيات وتفريعات وتطويرات تشمل الكثير من الأفكار والمدارس.
2ـ الأساس الوظيفي :
وبعض الباحثين يسقطون الجانب التركيبي للنفس نظرا للاختلاف البين في مجاله حيث أنه يضيف تركيبا مجردا لا جسم له ، ويلجؤون إلى تعريف النفس باعتبارها التركيب الذي يؤدي الوظائف النفسية الأساسية وهي :
- الوظيفة المعرفية بدءً من الإحساس والانتباه والإدراك والتفكير والتصور والتذكر .
- الوظيفة الوجدانية بمكوناتها من المشاعر والانفعالات والعواطف .
- الوظيفة النزوعية بمكوناتها من الحركة والكلام والإرادة والقدرات العامة والخاصة والدوافع .
ب ــ النفس في المفهوم الإسلامي :
إن النفس في القرآن وردت بمفهوم الذات ، قال تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم } . سورة البقرة
وقد ورد في القرآن صنوف النفس أتصور أنها جزء من مكونات النفس ، وهي :
1ـ النفس الأمارة : قال تعالى : { إن النفس لأمارة بالسوء } سورة يوسف .
2ـ النفس اللوامة : وقد أقسم بها الله ، قال تعالى : {ولا أقسم بالنفس اللوامة } سورة القيامة وفي تصوري أن وجود هذين التكوينين في النفس الإنسانية يتوازى مع مفهوم ( الهو ) في التحليل النفسي وتعني الجزء من النفس الذي يشمل الغرائز والرغبات وغيرها و (الأنا الأعلى ) ، وهو ما يمثل الضمير الذي يشمل نتاج التربية والتعليم من الوالد للأبناء .
ونتاج الاختلاف بين التركيبين النفسيين هو ما تواضع الباحثون على تسميته بالصراع النفسي الذي ينتهي باتخاذ السلوك موقفا إلى جانب أي من الطرفين وهو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى : { وهديناه النجدين } سورة البلد ، وقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} سورة الإنسان .
وبينما أخذت نظرية التحليل النفسي بحتمية السلوك الإنساني ، أخذ الإسلام بمنهج اختيارية السلوك كما قال تعالى : { وهديناه النجدين } سورة البلد .
ومن هنا كانت مسئولية الاختيار تقع على عاتق الإنسان الفرد . وقد ذهب المفهوم الإسلامي خطوة أوسع فاعتبر أن السلوك هو محل الحكم قال تعالى : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون } سورة الواقعة .
وفي تقويمنا لسلوك الآخرين فإن الإسلام اتجه إلى التقدير على ظاهر السلوك ، قال عليه الصلاة والسلام : ( أمرت أن آخذ الناس بالظواهر وعلى الله البواطن ) . بينما اتجه التحليل النفسي إلى البحث عن الدوافع وتقويمها في اللاوعي الأمر الذي يوقع الإنسان في كثير من الأخطاء لان ما بالداخل ما هو إلا دليل قطعي عليه وما هو إلا رأي الباحث وظنه .
وفي صراع الإنسان النفسي بين النفس الأمارة واللوامة فإنه يصل في النهاية إلى تغليب جانب الخير في نفسه وهنا يصل إلى درجة من الاطمئنان النفسي يؤكدها إيمانه بالله وغيبه وقضائه وقدره واليوم الآخر والملائكة والنبيين .
وهنا تصبح ذاته مطمئنة تستحق أن توصف بلفظ ( النفس المطمئنة ) فإن النفس المطمئنة هدف يقصده كل إنسان خروجا من الصراع النفسي الذي يعيشه . وتقويم القرآن للنفس على أساسها أنها الذاتي قد يلزمنا أن نذكر بعض الشيء عن سيكولوجية الذات كمنهج دراسي .
والدين هو الذي يعرف الإنسان : إلى أين يسير بعد الحياة والموت؟ إنه يعرفه أن الموت ليس فناء محضا ، ولا عدما صرفا ، إنما هو انتقال إلى مرحلة أخرى . . إلى حياة برزخية بعدها نشأة أخرى توفى فيها كل نفس ما كسبت ، وتخلد فيما عملت ، فلا يضيع هناك عمل عامل من ذكر أو أنثى ، ولا يفلت من العدل الإلهي جبار أو مستكبر ، قال تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم () فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره () ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } بهذا يعيش الإنسان بوجدانه في الخلود ، ويعلم أنه خلق للأبد ، وإنما انتقل بالموت من دار إلى دار .
والدين هو الذي يعرف الإنسان : لماذا خلق؟ ولماذا كرم وفضل؟ يعرفه بغاية وجوده ، ومهمته فيه ، إنه لم يخلق عبثا ، ولم يترك سدى ، إنه خلق ليكون خليفة الله في الأرض ، يعمرها كما أمر الله ، ويسخرها لما يحب الله ، يكشف مكنوناتها ، ويأكل من طيباتها ، غير طاغ على حق غيره ، ولا ناس حق ربه . وأول حقوق ربه عليه أن يعبده وحده ، ولا يشرك به شيئا ، وأن يعبده بما شرع ، على ألسنة رسله ، الذين بعثهم إليه هداة معلمين ، مبشرين ومنذرين ، فإذا أدى مهمته في هذه الدار المحفوفة بالتكليف والابتلاء ، وجد جزاءه هناك في الدار الآخرة: قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } .
بهذا يدرك الإنسان سر وجوده ، ويستبين مهمته في الحياة ، بينها له بارئ الكون ، وواهب الحياة ، وخالق الإنسان . إن الذي يعيش بغير دين ـ بغير عقيدة في الله ـ إنسان شقي محروم حقا .
إنه في نظر نفسه مخلوق حيواني ، ولا يفترق عن الحيوانات الكبيرة التي تدب على الأرض من حوله والتي تعيش وتتمتع ثم تموت وتنفق ، بدون أن تعرف لها هدفا ، أو تدرك لحياتها سرا ، إنه مخلوق صغير تافه لا وزن له ولا قيمة ، وجد ولا يعرف ، كيف وجد ، ولا من أوجده؟ ويعيش ولا يدرى ، لماذا يعيش؟ ويموت ولا يعلم لماذا يموت ؟ وماذا بعد الموت ؟ إنه في شك ـ بل في عمى ـ من أمره كله ، محياه ومماته ، مبدئه ومنتهاه ، كالذين قال الله فيهم : { بل أدارك علمهم في الآخرة () بل هم في شك منها () بل هم منها عمون }.
إن حاجة الإنسان إلى الدين تنبثق ـ قبل كل شيء ـ من حاجته إلى معرفة حقيقة نفسه وإلى معرفة حقائق الوجود الكبرى ، وأول هذه الحقائق وأعظمها: وجود الله تعالى ووحدانيته وكماله سبحانه، فبمعرفته والإيمان به ـ جل شأنه ـ تنحل عقد الوجود، ويتضح للإنسان الغاية والوجهة ، ويتحدد المنهج والطريق .