بسم الله الرحمن الرحيم
الناظر في الأبحاث العلمية الشرعية سواء الجامعية منها، أو غير الجامعية، يرى عجباً وغرائب مما يطول الكلام بإيرادها، ولعل لها موضع آخر، إن شاء الله وقدر، بعنوان:"أسباب الأخطاء في الأبحاث العلمية وتطبيقاته المعاصرة"؛ إنما أردت في هذه الأسطر، أن أضع بين يدي الباحث خطوط عريضة، وأسس وأصول علمية، لنجعلها نبراس يستضيء به من أراد أن تكون أبحاثه على الوجه الصحيح، ودائماً أكرر أن ما أكتبه لا أدعي فيه الابتكار، أو السبق،؛ إنما هو مجرد التقاط درر كلام أهل العلم، بحيث يسهل على المطلع الاستفادة منها. وأسأل الله العظيم الكريم -أعظم من سئل وأكرم من أجاب- أن يوفقنا لصواب القول والعمل، وأن يرزقنا اجتناب أسباب الزيغ والزلل.
فلنشرع الآن في المقصود، فأقول وبالله أستعين: هذه بعض الأسس والأصول العلمية التي ينبغي مراعاتها عند كتابة الأبحاث العلمية الشرعية:
1- تصوير المسألة محل البحث تصوراً تاماً، ليتمكن من الحكم عليها، وبذلك يتم تحرير محل النزاع تحريراً دقيقاً. فمن مشهور كلماتهم:"الحكم على الشيء فرع عن تصوره"؛ لأن ذلك فيه من التأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه، وما هو المقصود.
2- نسبة كل قول إلى قائله؛ لأنه يقال: إن من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله.
3- التحقق من نسبة الأقوال إلى قائلها، فكم من عالم نسب إليه قول ولا يصح ذلك عنه.
4- معرفة أدلة كل قول، وذلك بتتبع الأدلة من كتب أصحاب الأقوال، أو الكتب التي تحكي الخلاف كـ"الأوسط"، والإشراف"، و"التمهيد"، و"الاستذكار"، وكذلك "المغني"، و"المجموع"، وغيرها. على أن ينشط الباحث، لإيجاد أدلة أخرى، لم يذكرها أصحاب الأقوال، وتصلح أن تكون دليلاً لهم. وقد تجد القول، ولا يذكر أصحابه دليلاً له، فلو تمكن الباحث من الاستدلال لهم، لكان أكمل.
5- ذكر سبب الاختلاف في المسألة إن أمكن ذلك.
6- ذكر وجه الاستدلال من النص أو الدليل.
7- معرفة وجهة نظر كل فريق في أدلة الآخرين؛ لنعلم لِم لَمْ يأخذ بها، أو بَم يردُّ عليها. [مقدمة الشيخ عطية محمد سالم -رحمه الله- لزكاة الحلي (ص/7)].
8- كلما كان الباحث عنده معرفة ودراية، بصناعة الحديث، مكنه ذلك من دراسة الأحاديث والآثار المستدل بها من حيث الصحة والضعف، فتتحقق له معرفة ثبوت الأدلة من عدمها، وهذه من أهم مراتب البحث، فإن لم تتوفر له هذه المعرفة الحديثية، فعليه أن يعتني بنقل أقوال أئمة الحديث وحفاظه، فينجو بذلك من الاستدلال بأدلة لا زمام لها ولا خطام؛ أما من عدم ذلك فإنه يخبط في بحثه خبط العشواء في الليلة الظلماء، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، فيستدل بما لا تقوم به حجة لضعفه أو وهاءه، أو يعارض به ما صح، إذ لا يجوز معارضة الصحيح به، فيكثر بذلك لخطأ والزلل في بحثه. وهذا ابن الجوزي -رحمه الله- في "تلبيس إبليس" (ص/137) وهو يذكر تلبيس إبليس على الفقهاء يقول موضحاً خطر عدم الاهتمام بعلم الحديث، ومعرفة الصحيح من السقيم:"كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث، فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون: يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها، ثم استهانوا بهذا الأمر أيضاً، وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها، وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟!
وربما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم، لقلة التفاته إلى معرفة النقل، وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة، فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه؟ ومن القبيح تعليق حكم على حديث لا يَدْري أصحيح هو أم لا؟
ولقد كانت معرفة هذا تَصْعُب، ويحتاج الإنسان إلى السفر الطويل، والتعب الكثير، حتى تَعْرفَ ذلك، فصُنِّفَت الكتب، وتقررت السنن، وعُرف الصحيح من السقيم، ولكن غلب على المتأخرين الكسل بالمرة عن أن يطالعوا علم الحديث، حتى إِنِّي رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ في (الصحاح): لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا، ورأيته يحتج في مسألة فيقول: دليلنا ما روى بعضهم أن رسول الله قال: كذا، ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتجَ به خصمه أن يقول: هذا الحديث لا يُعْرَفُ. وهذا كله جناية على الإسلام".
9- أنه لا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته، بدليل صحيح صريح، وافقه طائفة من أهل العلم، إلى قول آخر قاله عالم، ليس فيه ما يدفع به هذه الحجة.
10- أن مجال الاستدراك على العلماء مفتوح على قاعدة:"كم ترك الأول للآخر!"، ولكن بشرط أن يكون من طالب علم بصير بأصول العلم وقواعده، ومع ذلك يعلم أن الفضل للمتقدمين ومن خالفهم في المسائل لم يدع الترفع عليهم. قال أبو الفضل السلامي في "كتاب التنبيه" (ص/154):"والفضل لمن سبق من أهل العلم،وهم القدوة لمن جاء بعدهم، فبقولهم نهتدي، ولهديهم نقتفي، وبعلمهم نقتدي".[وينظر:"إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" للأمير الصنعاني (ص/132)].
ورحم الله الإمام ابن قتيبة حيث قال في مقدمة كتابه "إصلاح غلط أبي عبيدة في غريب الحديث":"ولا نعلمه -عز وجل- خص بالعلم قوماً دون قوم، ولا وقفه على زمن دون زمن، بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر منه ما أغلقه على الأول، وينبه المقل فيه على ما أغفل عنه المكثر، ويحييه بمتأخر يتعقب قول متقدم وتالٍ يعتبر على ماضٍ، وأوجب على كل من علم شيئاً من الحق أن يظهره وينشره، وجعل ذلك زكاة العلم، كما جعل الصدقة ".
وانظر أيضاً إلى قول محدث العصر الإمام الألباني -رحمه الله- في "الضعيفة" (3/180) :"فتأمل كيف يقع الخطأ من الفرد، ثم يغفل عنه الجماعة ويتتابعون وهم لا يشعرون، ذلك ليصدق قول القائل:كم ترك الأول للآخر، ويظل البحث العلمي مستمراً، ولولا ذلك لجمدت القرائح، وانقطع الخير عن الأمة". وقال أيضاً في "الضعيفة" (5/11):"ولا يفوتني أن أذكر بما يأتي:
طالما أقول مذكراً إخواني: إن العلم لا يقبل الجمود، أكرر ذلك في مجالسي ومحاضراتي، وفي تضاعيف بعض مؤلفاتي".
وقال أيضاً في:"الضعيفة" (1/44):"يعلم من شاء الله أن يعلم أن العلم لا يقبل الجمود، فهو في تقدم مستمر من خطأ إلى صواب، ومن صحيح إلى أصح، وهكذا...".
11- إن العالم قد لا ينشط للبحث، فيقع منه الاستشهاد بحديث على المتابعة لمن استشهد به من الفقهاء والعلماء الذين ينظر في كتبهم، فيورده متابعة دون أن يبحث عنه. وكثيراً ما يقع للعالم هذا ؛ إذ لا ينشط للكشف والتمحيص لما يستشهد به ، فيذكره أو ينفيه على الاسترسال والمتابعة. إذن: فالاعتماد على من تفرغ وبحث ومحص، لا على من تابع ونقل واسترسل. [مستفاد من تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على كتاب "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" للملا علي القاري على الحديث رقم (378)].
12- أن في الأبحاث العلمية تنبيه على ما يقع في كلام أهل العلم من السهو، أو الخطأ، أو ما هفا به الخاطر نسياناً، أو جرى به القلم طغياناً. ومع ذلك كله؛ فإن تلك الأخطاء من العلماء لا تُوجِبُ الطعن فيهم ولا الحطّ من منزلتهم، وما أجمل ما استفتح به الإمام أبو أحمد العسكري كتابه "تصحيفات المحدثين":"وبدأت بذكر جملة من أخبار المصحفين وبعض ما وهم فيه العلماء غير قاصد للطعن على أحد منهم، ولا الوضع منه، وما يَسلمُ أحَدٌ من زلة ولا خطا إلا من عصم الله". [ينظر: كتاب:"الإمام الألباني -رحمه الله تعالى- دروس ومواقف وعبر" للدكتور عبد العزيز السدحان (ص/81)].
13- ينبغي على الباحث أن يعلم أنه مهما قوية حجته، أو أمتلك قدرة من الفهم والتحصيل، فقوله غير معصومٍ، فيجوز عليه الخطأ.
14- أن الأبحاث العلمية تولد طالب علم نبه، شريطة ألا يستعجل النشر، بل يتأنى في مراجعتها، لعله يقف على أخطاء فيصلحها، أو فوائد فيضيفها، قال الربيع بن سليمان المرادي صاحب الإمام الشافعي: قرأت كتاب:"الرسالة المصرية" على الشافعي نيفاً وثلاثين مرة فما من مرة إلا وكان يصححه، ثم قال الشافعي في آخره: أبى الله أن يكون كتاب صحيح غير كتابه، ويدل على ذلك قول الله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وأخرج الخطيب في "تاريخ بغداد" (12/407) بإسناده إلى أبي عبيد القاسم بن سلام -وهو بتشديد اللام- قال:"كنت في تصنيف هذا الكتاب -يعني:كتاب "غريب الحديث"- أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في موضعها من الكتاب فأبيت ساهراً فرحاً منى بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيم عندي أربعة أشهر، أو خمسة أشهر فيقول" قد أقمت الكثير". بل عليه أن يعرض أبحاثه على مشايخه، وعلمائه، وكبار طلبة العلم، لتلقي منهم النصح والتوجيه، والإرشاد، فإذا نصح بعدم نشرها استجاب، واستكمل البحث حتى يستوي على سوقه. وإذا نشرت له أبحاث، فيكون حريصاً على طلب النصح ليصحح خطؤه، ولا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أذكر ما وقع من محدث العصر الإمام الألباني -رحمه الله- في طلب الإفادة من غيره، فمن ذلك ما ذكره في "مختصر كتاب العلو" للذهبي (ص/193) عندما استشكل عليه لعض رواة سند من الأسانيد قال ما نصه:"فمن كان عنده علم فليتفضل به علينا نكن له من الشاكرين".
وفي كتابه "تحذير الساجد" (ص/181) عندما تكلم -رحمه الله- عن حُكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور، وهل الصلاة باطلة أو مكروهه، قال رحمه الله تعالى:" وإن القول بالبطلان محتمل، فمن كان عنده علم في شيءٍ من ذلك فليتفضل ببيانه مع الدليل مشكوراً مأجوراً".
وقال في مقدمته لكتابه "الأجوبة النافعة":"... وأيضاً؛ فأنا شخصياً بحاجة إلى من ينبهني إلى ما قد يبدو مني من خطأ أو وهم، مما لا ينجو منه إنسان، فإذا نشرت آرائي تمكن أهل العلم من الاطلاع عليها، ومعرفة ما قد يكون من الوهم فيها، وبينوا ذلك كتابةً أو مشافهةً، فشكرت لهم غيرتهم وجزيتهم خيراً". [مستفاد: كتاب:"الإمام الألباني -رحمه الله تعالى- دروس ومواقف وعبر" للدكتور عبد العزيز السدحان (ص/77، 84)].
تنبيه: قد نجد بعض طلبة العلم، يكتب في نهاية مقدمة أبحاثه، أو خاتمتها:"أنه يطالب من وجد خطأ في كتابه ألا يتردد في إبداء النصح له"، ولكن إذا قدمت له النصيحة، لا يلقي لها بالاً، وكان عليه إن أوقفه أحد على وهم أو خطأ، أن يرجع عنه بأي وسيلة في طبعة جديدة للكتاب، أو في مقدمة كتاب آخر له، أو على موقعه في شبكة المعلومات، كما هو متاح الآن، وكم نبهت على بعض الأوهام لبعض أصحابنا في كتبهم، مع وجود طلب التنبيه على الأخطاء والأوهام في مقدمة كتبهم، كما ألمحت آنفاً، ومع ذلك طبع الكتاب الذي فيه الخطأ أو الوهم طبعة أخرى، ولم يصحح الخطأ، أو أخرج كتب أخرى، ومع ذلك لم يشر في المقدمة إلى ما وقع من خطأ في كتابه السابق، مع قدرته على ذلك، فماذا نفسر صنيع هؤلاء؟! أخشى أن تكون ادعاء دعاوي عريضة لا تقوم على أساس!! وقد ألمح محدث العصر -رحمه الله- إلى عدم رجوع بعضهم عن الخطأ بقوله:"خشية القالة والغمز واللمز!!".[انظر: تحقيق "الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص/8) طبعة دار المعارف].
وهنا أذكر دروس عملية لبعض العلماء في قبولهم النصح وذكر من نبههم على الأخطاء، فهذا صنيع الحاكم صاحب المستدرك كان ينبه على الأخطاء التي وقع فيها، وينسبها إلى من أوقفه عليها، فقد أخرج ابن الجوزي في "المنتظم" (7/291) عن عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ قال:"لما وصل كتابي الذي عملته في أغلاط أبي عبد الله الحاكم أجابني بالشكر عليه وذكر أنه أملاه على الناس وضمَّن كتابه إليَّ الاعتراف بالفائدة وبأنه لا يذكرها إلا عنِّي". وذكر الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/269-270) هذه القصة وفي آخرها قول الحافظ عبد الغني معقباً على صنيع الحاكم:" فعلمت أنه رجل عاقل".
وهذا محدث العصر الإمام الألباني -رحمه الله- يعطينا أيضاً تطبيقاً عملياً في كيفية تقبله النصح، وشكره لمن نبهه على الخطأ، فيقول في مقدمة كتاب "صحيح الترغيب والترهيب":"... والحديث الأول منها يعود الفضل في تنبيهي لضعفه إلى الشيخ الفاضل بكر بن عبد الله أبو زيد ...".
ومن ذلك قوله في موضع آخر:"... دلني عليه عبد الله الدويش -رحمه الله- وجزاه الله خيراً". [انظر تحقيق كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 848)].
وقال أيضاً:"... كما أفادنيه الدكتور محفوظ عبد الرحمن ... وجزاه الله خيراً".[انظر تحقيق كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 1238)].
وفي مقدمته لكتاب "صفة الصلاة" ذكر قبوله أربعة مسائل أخطأ في نبهه عليها الشيخ التويجري -رحمه الله- بقوله:"... وأرى من تمام الشكر أن أعترف بإصابته الحق فيها، أنني رجعت إلى رأيه فيها، وهي ...".
[مستفاد: كتاب:"الإمام الألباني -رحمه الله تعالى- دروس ومواقف وعبر" للدكتور عبد العزيز السدحان (ص/82-83)].
15- عليه أن يعلم:"أن من صنف قد استهدف"، فيوطن نفسه على الرجوع إلى الصواب. وإليك صنيع محدث العصر الإمام الألباني -رحمه الله- في هذا الباب، حيث أورد في "الضعيفة" الحديث رقم (5725):"لتزدحمن هذه الأمة على الحوض ازدحام إبل وردت لخمس"، وقال:"وجملة القول: أن الحديث ضعيف؛ لأن مدار طرقه على ابن تمنع هده الكلمة في المنتديق هذا، وإني أستغفر الله تعالى من تقويتي إياه سابقاً، ولو أن ذلك كان تبعا لغيري ، فالحمد لله الذي وفقني للرجوع عن خطئي الذي ترتب عليه خطأ آخر بذكره في "صحيح الجامع الصغير" (5068)، فمن كان عنده نسخة منه ؛ فليضرب، ولينقله إلى الكتاب الآخر إن كان لديه:"ضعيف الجامع". والله ولي التوفيق".
16- ينبغي أن يحسن استعمال القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرف حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل يرجع إليه. وأخرج أبو عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/78) عن أبي القاسم عبيد الله بن عمر بن أحمد - قال:"إن من حق البحث والنظر الإضراب عن الكلام في فروع لم تحكم أصولها، والتماس ثمرة لم تغرس شجرتها، وطلب نتيجة لم تعرف مقدماتها".
وقال أبو عمر ابن عبد البر: ولقد أحسن القائل:
ولا ينال ذروة الغايات --- إلا عليم بالمقدمات
وقال صالح بن عبد القدوس:
لن تبلغ الفرع الذي رمته --- إلا ببحث منك عن أسه
وبذلك يظهر أهمية المعرفة بعلم أصول الفقه، وما يعين على النظر في الأدلة الشرعية، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في "إرشاد الفحول" (ص/823-824):"إن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسالة من مسائله نظرًا يوصله إلى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها، بأيسر علم، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد، وخبط فيه وخلط".
17- الاهتمام بالاطلاع على مواطن الإجماع، والخلاف، بين المذاهب والآراء الفقهية، في المسائل التي يريد بحثها، وبذلك يعرف أدلة كل فريق، ومن هم الفقهاء اللذين اختلفوا في هذه المسائل، وقد قال قتادة -رحمه الله-:"من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه". أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/102)، وتخلف هذا الأمر يوقع الباحث في الأخطاء الفاحشة، والتقليد الأعمى، فيجعل بحثه ضعيفاً، فيه قصور شديد، وكم شاهدنا كثير من هذه الأبحاث التي تطل علينا بين الفينة والفينة، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-في "كتاب العلم" (ص/209):"فإن من طلبة العلم من لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير، ثم ينصب نفسه مجتهدًا فتجده يعمل بأحاديث عامة، لها ما يخصها، أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها، أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها، ولا يدري عن إجماع العلماء، ومثل هذا على خطر عظيم".
18- الاهتمام بعلم اللغة والنحو وغيرها، لتكون عنده القدر اللازم لفهم الكلام، مما يمكنه من النظر في الأدلة نظراً صحيحاً.
19- الترجيح بين الأقوال لمعرفة الراجح في المسألة. وهذا يتطلب النظر في أدلة كل قول، والاعتراضات على كل منها، لنسلك مسلك الترجيح بوجه من وجوه الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه وأصول الحديث، وهذا الأمر يتطلب ملكة تتكون بالممارسة. وكلما كان الباحث متجرداً همته إدراك الصواب في المسألة محل البحث، غير متعصب لعالم، أو مذهب، كان أقرب إلى الوصول إلى القول الراجح في المسألة بتوفيق الله تعالى. وقد قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في "مختصر الصواعق":"إنما يؤتى الرجل من سوء فهمه، أو سوء قصده، أو كليهما، فإذا اجتمعا كَمُل نصيبه من الضلال".
وأخيراً: كلما رعى الباحث الأسس والقواعد في مسيرته العلمية، تكونت لدية ملكة علمية مميزة، قال ابن خلدون في "مقدمته":"إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه؛ إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً". والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه: ساعد بن عمر غازي