المطلب الثاني
خصائص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
بعد أن وضحنا المقصود بالتأمين في مقاولات البناء ، وتحديد أسسه ووظائفه ، لابد من بيان خصائص هذا العقد الذي يتميز عن غيره من عقود التأمين الأخرى لكونه يتعلق بما قد يثار بصدد المسؤولية المدنية المهنية ، لان المجال المهني يؤثر في العقد من حيث بنوده وشروطه ، ومن حيث نطاقه ، فمن أهم خصائص هذا العقد :
1. عقد رضائي
الأصل أن عقد التأمين عقد رضائي يتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول بأية وسيلة يمكن أن تعبر عن إرادة طرفي العقد ، حيث لم يشترط القانون العراقي والقوانين المقارنة شكلية معينة لإبرامه ، فإذا ما تم التراضي بين الطرفين تم العقد دون الحاجة إلى إجراء آخر( )، ولكن قد يكون عقد التأمين شكلياً إذا علق الطرفان تمام العقد على إمضاء وثيقة التأمين ، ولا يتم العقد إلاّ بالإمضاء ، وكذلك قد يكون عقد التأمين عقداً عينياً إذا علق الطرفان تمام العقد على دفع القسط الأول من أقساط التأمين ، وقد يعلق نفاذ العقد على دفع القسط الأول من أقساط التأمين ، على إمضاء وثيقة التأمين ودفع القسط الأول ، فلا يتحمل المؤمن الخطر المؤمن منه إلاّ من وقت الإمضاء ودفع المؤمن له قسط التأمين الأول ، ويترتب على هذا ان تصبح وثيقة التأمين ضرورية لانعقاد العقد وليس لإثباته وكذلك الحال فيما يتعلق بوصل قسط التأمين المسدد وعلى هذا الأساس يكون عقد التأمين عقداَ شكلياً وعينياً في آن واحد( ).
ومع هذا فإن لعقد التأمين مظهراً خارجياً لإتمامه يأخذ صيغة شكلية معينة متمثلة ابتداءً من طلب التأمين ثم بمذكرة التغطية المؤقتة وانتهاء بوثيقة التأمين وملحقها ( ).
بيد أنّ هذه الصيغة الشكلية ليست ملزمة فيمكن تجاوزها باتفاق الطرفين استناداً لمبدأ الرضائية في العقود ، إلاّ أن الواقع العملي غالباً ما يشترط التوقيع على وثيقة التأمين وتسديد جزء من القسط ليبدأ سريان التأمين وبهذا يكون عقد التأمين شكلياً وعينياً .
ولما كانت الكتابة شرط لإثبات العقد إلاّ أن العادة جرت ان تكون الكتابة شرط لانعقاده ، لكونه يتعدى طرفيه للغير ، كما أن من الصعوبة بمكان ان يكون هناك عقد تأمين شفوي ، وان كان لا يوجد ما يمنع ذلك ما دامت وسيلة التعبير عن الإرادة سليمة لان الطبيعة الخاصة التي يتميز بها عقد التأمين أن يتضمن العديد من البنود والشروط الواجب إيرادها بالتفصيل( ) . ولهذا يتجه القضاء الفرنسي إلى إسباغ الصيغة الشكلية على عقود التأمين والذي يتعين بموجبها توقيعه من أحد طرفيه أو كلاهما حسب الاتفاق ( ).
وعلى الرغم من أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد تأميناً إلزامياً في القوانين المقارنة في كل من مصر( ) والجزائر( ) وفرنسا( ) ، فإن التأمين الإلزامي لا يتنافى بأي حال من الأحوال مع إضفاء الصفة الرضائية على هذا التأمين ، لأنه يعدّ أحد الشروط الواجب توفرها عند ممارسة المهني نشاطه بحيث لو تخلف عن هذا الشرط عرض الملتزم بإبرام العقد للعقوبات القانونية ، لان التأمين الإلزامي يتعلق بالنظام العام ولا يجوز الاتفاق على استبعاده أو الحد من أحكامه ، حيث ان الإلزام ينصب على اقتناء وثيقة التأمين( )، إذ حالها حال شروط الحصول على المؤهل العلمي او التمتع بالأهلية ، لأن الإلزام يتعلق بوجوب ثبوت العقد . أما الصفة الرضائية فتتعلق بالطريقة التي نشأ بها العقد ( )، وان كان قد قيد مبدأ سلطان الإرادة بنص القانون من خلال الإلزام بإبرام عقد التأمين .
2. عقد معاوضة
يعد عقد التأمين من عقود المعاوضة ، حيث يحصل كل طرف مقابل لما يعطى( ) ، إذ ينبغي على المؤمن ان يتحمل الخطر مقابل أقساط التأمين التي يسددها المؤمن له لينعم بالأمان مقابل الأقساط التي سددها( ). وعلى هذا الأساس لا يمكن لعقد التأمين ان يتحول إلى عقد تبرعي عند عدم تحقق الخطر المؤمن منه أثناء سريان مدة العقد حتى انقضائه ، حيث إن الهدف الأساس للعقد هو التعويض عن الخسارة التي تلحق المؤمن له نتيجة رجوع الغير عليه بدعوى المسؤولية الأمر الذي يترتب عليه نتيجتان( ):
النتيجة الأولى
إن مبلغ التعويض لا يمكن باي جال من الاحوال ان يتجاوز مقدار الضرر الواقع ، وان كان يقل عنه بالاتفاق مسبقاً ، فالعقد وسيلة لدرء الخسارة فقط .
النتيجة الثانية
عدم إمكان تحديد مبلغ التعويض مسبقاً ، لان التعويض المستحق لا يمكن تحديده عند إبرام العقد ، وهذه نتيجة طبيعية للنتيجة الأولى لأن التعويض لا يمكن تحديده إلاّ في اللحظة التي يقع فيها الضرر .
3. عقد ملزم للجانبين
يلتزم به كل من المؤمن والمؤمن له قبل الآخر ، حيث يلتزم الأول بتغطية الأخطار حسب الاتفاق أو نص القانون بدفع التعويض أو مبلغ التأمين عند وقوعها ( )، في حين لا يلتزم الثاني بتسديد قسط التأمين فحسب ، بل يمتد ليشمل جملة من الالتزامات لضمان حسن تنفيذ العقد( ). وهكذا فهو التزام غير محقق أي احتمالي وليس معلق على شرط واقف بتحقق الخطر الذي يعد ركن في الالتزام وليس مجرد شرط ( )لان العبرة في تقابل الالتزامات التعاقدية تكون بلحظة إبرام العقد وليس بلحظة تنفيذه( ).
4. عقد تأمين مهني
يتجه رأي بعض من الفقهاء إلى اعتبار التأمين من المسؤولية المدنية المهنية عموماً عقد تأمين مهني لأنه يتعلق بالنشاط المهني لمن يزاوله كالمهندس والمحامي والطبيب ( )، وعليه فان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد عقد تأمين مهني يغطي الأضرار التي تنتج عن الأخطار المهنية أثناء ممارسة الشخص لنشاطه المهني لان محل العقد الأخطار المتعلقة بممارسة المهنة ، وبالتالي فان العقد الذي يبرمه المهني يختلف عن غيره من عقود التأمين التي يبرمها لصالحه أو لصالح أسرته بما قد يلحقه أو أسرته من أخطار باعتباره شخصاً عادياً لا صلة للأخطار المؤمن ضدها في نطاق مهنته التي تتطلب دليلاً على وجود خطأ ثابت حتى يمكن الحصول على التعويض بخلاف التأمين مثلاً للمباني أو الأدوات التي يكون أساس التعويض على خطأ مفترض عند نهوض مسؤولية المهني على الأشياء أو الأدوات التي يستخدمها في إنجاز عمله .
5. عقد احتمالي
أورد المشرع العراقي عقد التأمين ضمن طائفة عقود الضرر ، لأنه عقد احتمالي ، إذ لا يستطيع بموجبه كل من المتعاقدين تحديد بالضبط ما يحصل عليه من منفعة وقت إتمام العقد، حيث أن هذا متوقف على تحقق وقوع خطر المؤمن منه او عدم وقوعه ( )، ولكونه عقداً احتمالياً فلا يستطيع فيه الطرفان المتعاقدان تحديد المركز المالي لكل منهما عند إبرام عقد التأمين ، إذ إن أمر نشوء الالتزام وتحديد مداه معلقاً على حادثة مستقبلية قد تقع وقد لا تقع( )، فهو ليس عقد معلق على شرط ، فالخطر المؤمن منه ركن قانوني في الالتزام . بيد إن صفة الاحتمالية قد تنحسر إذا تم النظر إلى عقد التأمين من الناحية الفنية ، لان المؤمن حرص كل الحرص على التخلص من الطبيعة الاحتمالية لالتزامه قدر الإمكان من خلال دراسة عملية التأمين بالاستعانة بقوانين الإحصاء وما يضعه الخبراء من تقارير ليظل التزام المؤمن التعاقدي معرض للمخاطر العادية التي قد يلاقيها أي مشروع( ) . فإذا كان الطابع الاحتمالي قد ينتفي بالنسبة للتأمين كعملية فنية تقوم على حسابات دقيقة غير أنه يبقى عقداً من العقود الاحتمالية يقوم على حادث قد يقع مستقبلاً( ).
6. عقد من عقود حسن النية
يعدّ مبدأ حسن النية صفة لازمة لكل عقد من العقود ، إلاّ أن هذه الصفة اكثر لزوماً في عقد التأمين بالنظر لطبيعته المميزة ، إذ لا بد أن يكون قائماً على مبدأ منتهى حسن النية، وعليه أن يتحلى به كل متعاقد( ) ، إذ لا يجوز لطرف من أطرافه أن يحرف في المسائل الجوهرية التي تهم الطرف الثاني ، ولو كانت بحسن نية ، كأن تكون ناشئة عن خطأ أو سهو أو نسيان ، لأن هذا من شأنه أن يعطي للطرف الآخر الحق بفسخ العقد( )، أن كان مصدره اتفاق الطرفين لان مبدأ منتهى حسن النية له محل اعتبار في مرحلتي إبرام العقد وتنفيذه .
فبالنسبة لمرحلة إبرام العقد يكون اعتماد المؤمن إلى حد كبير على ما يدلي به طالب التأمين من معلومات تتعلق بالخطر المراد ضمانه كالبيانات الموضوعية والشخصية التي تكون ذات صلة بالظروف المحيطة بالخطر ، أما بالنسبة لمرحلة تنفيذ العقد التي لا تقل أهمية عن مرحلة إبرام العقد ، إذ على المؤمن له أن يحظر المؤمن بكل ما يطرأ من مستجدات من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الخطر المؤمن منه ، لان عدم الالتزام قد يؤدي بالنتيجة إلى بطلان العقد( ) وقد استقر القضاء العراقي ( )والقضاء المصري ( )على إبطال عقد التأمين عند انتفاء مبدأ منتهى حسن النية لدى كلا الطرفين بدافع الغش فيها أو إخفاء حقيقة الأمر . ومما تقدم يلاحظ ان نطاق هذا المبدأ يبدأ من قبل التعاقد ثم سريان العقد وبعده تحقق الخطر أو انتهاء مدة التأمين، بمعنى آخر من لحظة تقديم طالب التأمين طلبه إلى المؤمن يطلب فيه التأمين إلى انقضاء التزامات كلا الطرفين .
7. عقد إذعان
العقود أما أن تكون عقود مساومة أو مفاوضة أو عقود إذعان ، إذ إن الأولى تجتمع فيها إرادة المتعاقدين عن حرية واختيار( )، إذ يمكن لطرفي العقد أن يتناقشا في تفاصيل العقد وشروطه قبل إبرام العقد ، وان يتفقا حول ما يترتب على كل منهما من التزامات وحقوق .
أما عقود الإذعان فإن المفاوضة معدومة مع الموجب بل يجب قبول العقد أو تركه جملة( )، وعلى هذا الأساس يملي الجانب القوي فيه شروط العقد وما على الطرف الضعيف إلاّ أن يقبلها مذعنا أو أن يرفضها حيث لا دور لإرادة الطرف المذعن في تحديد الالتزامات والحقوق . وعليه يعدّ عقد التأمين من عقود الإذعان الذي يكون المؤمن الجانب القوي في إعداد وثيقة التأمين ولا يملك المؤمن له حرية المناقشة فما عليه إلاّ بالقبول بالوثيقة المعدة كما هي أو رفضها برمتها( ). إذن صفة الإذعان التي يتمتع بها عقد التأمين ناشئة في إعداد الوثيقة وإدراج شروطها مسبقاً بكل تفاصيلها في غياب دور المؤمن له ، إلاّ أن الواقع العملي قد قلل من صفة الإذعان لعقد التأمين ، حيث أن في ظل المنافسة بين المؤمنين الذين يسعون جاهدين لاجتذاب عملائهم من خلال حرصهم قدر الإمكان على عدم فرض شروط تعسفية على المؤمن له ، إذ إن عنصر المنافسة يدفع بهم إلى وضع شروطاً وبنوداً أكثر رعاية لمصلحة المؤمن له بغية الإقبال واكتتاب التأمين لديه دون سواه ، أما إذا تضمنت وثيقة التأمين شروطاً تعسفية تجاه المؤمن له ، فان المشرع قد تدخل في العديد من الدول( )ومنها العراق( ) ، بغية إعادة التوازن إلى طرفي العقد وحماية مصلحة الطرف المذعن في الشروط التعسفية التي يمليها المؤمن باعتباره الطرف القوي بالعقد الذي يتمتع بمركز اقتصادي قوي تدعمه رؤوس الأموال الضخمة التي يمتلكها تمكنه من فرض ما يراه من التزامات على عاتق طالب التأمين.
كما برزت محاولات من الفقهاء والقضاء للتخفيف من صفة الإذعان في عقد التأمين( ) ، إلاّ أن هذه المحاولات يكاد تأثيرها لا يذكر أمام ما أحدثته المنافسة الحرة بين المؤَمنين( ).
وحيث أن عقد التأمين هذا من عقود الإذعان ، فان المؤمن يلجأ إلى طباعة نماذج للعقد يضع فيها شروطه التي لا تقبل المساومة والنقاش( )، وما على طالب التأمين إلاّ القبول والتسليم بشروط العقد أو رفضه كلياً( )، فهل يعد عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء في هذه الحالة من العقود النموذجية أيضاً ، وما إذا لو كانت أعمال التأمين يحتكره مؤمن واحد؟
إن عقد التأمين يعد من العقود النموذجية ، والتي تكون عقود مطبوعة تتضمن شروطاً معينة تحررها هيئات مهنية خاصة تعمل لدى المؤمن والتعامل بهذه الصيغة لنماذج عقود التأمين يوفر جملة من المزايا منها سرعة إبرام العقد وتوحيد القواعد التي تحكمه أياً كان أطرافه ، ولا سيما أن شروطه مدروسة بعناية بغية توفيق المصالح المتعارضة نظراً إلى ما تمليه هيئات المؤمن من الشروط التي من شانها تقلل من فرص النزاع حول تفسيره أو تنفيذه بيد أن هذا الأمر يجعله في النهاية أداة احتكار ، لأن من الصعوبة بمكان أن يفلح الطرف المتعاقد مع المؤمن بتعديل شروط العقد ، ولهذا فان عقد التأمين يعد من العقود النموذجية وبالتالي فهو من عقود الإذعان لاستبداد أحد طرفي العقد بالطرف الآخر( ) خاصة إذا كان مؤمن واحد يحتكر أعمال التأمين على صعيد إقليم الدولة الواحدة باعتباره شركة عامة تعود ملكيتها للدولة أو أن المشرّع قد خص مؤمناً معيناً بالذات يتولى اكتتاب هذا النوع من التأمين( ).
8. عقد مدة
إن العقود إما أن تكون فورية التي لا يكون الزمن فيها عنصراً جوهرياً ، أي لا يكون الزمن مقياساً لتقدير الالتزامات والحقوق الناشئة عنهم ، وإما أن تكون زمنية التي يكون الزمن فيها عنصراً جوهرياً ، ويكون الزمن مقياساً لتحديد التزامات وحقوق أطرافهم( ). ويعدّ التأمين من عقود المدة ، حيث أن الغاية التي يراد الوصول إليها بواسطة العقد لا يمكن أن تحقق أهدافها إلاّ مع الزمن ( ). ولهذا فان للمدة أهمية قصوى في عقد التأمين ، لان فسخ العقد لا يكون بأثر رجعي ، وإنما يتعلق بالمستقبل فقط ، إذ يحتفظ المؤمن بالأقساط التي أخذها وذلك مقابل للخطر الذي ضمنه خلال تلك الفترة الماضية من العقد ، ويترتب على اعتبار عقد التأمين من عقود المدة انه في حالة استحالة تنفيذ التزامات الطرفين بقوة قاهرة أو حادث فجائي . كما لو تهدم البناء نتيجة زلزال ، فإن عقد التأمين ينتهي بقوة القانون وتسقط التزامات طرفيه من وقت استحالة محل التأمين وما ذلك إلاّ تطبيقاً للقواعد العامة ( )، كما يترتب على اعتباره عقد التأمين من عقود المدة ( ) عدم جواز تجديده ضمناً ، وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض المصرية بعدم جواز تجديد عقد التأمين بعد انتهاء المدة بصورة ضمنية ، حيث جاء في أحد قراراتها (... أن عقد التأمين وان كان محدد المدة وان كان الزمن عنصراً جوهرياً فيه لأنه يلزم المؤمن مدة معينة… أما إذا استوفى مدته فانه يعتبر منتهياً ويشترط لتجديده أن ينص على ذلك صراحة بما يعني انه لا يجوز تجديده ضمناً)( ).
9. عقد تجاري
يعدّ عقد التأمين عقداً تجارياً باعتباره عملاً من الأعمال التجارية ، حيث نصت المادة 5/14 من قانون التجارة العراقي النافذ المرقم 30 لسنة 1984 على أنه : (تعتبر الأعمال التالية تجارية إذا كانت بقصد الربح ويفترض هذا القصد ما لم يثبت العكس أولاً ….14 التأمين)( ). يلاحظ من النص أن المشرع العراقي قد أضفى الصفة التجارية على أعمال التأمين إذا ما اتخذ بصفة مشروع تجاري قائم على فكرة الربح والخسارة وليس بالنظر إلى مركز المؤمن كشركة تأمين ، وبالتالي يخضع لأحكام العمل التجاري لا العمل المدني . إلاّ أن الواقع العملي ، وأن كان قد أفرز نوعين من التأمين هما التأمين بأقساط محددة والتأمين التبادلي أو الاقتراني( ) ، إلاّ أنهما يقومان على أساس واحد يتمثل بضمان الأخطار ، وعلى الرغم من ذلك فلابد من التمييز بين العمل التجاري والعمل المدني الذي يكاد لا يذكر في القانون العراقي الذي حد من التميز بين الآثار التي يترتب على كل من هذين النوعين من الأعمال ، بيد أن التمييز يحظى بأهمية كبيرة في القوانين المقارنة ، ولاسيما إن تمييز العقد التجاري عن العقد المدني من خلال تمييز العمل التجاري عن العمل المدني ، إذ يخضع الأول إلى أحكام القانون التجاري ، في حين يخضع الثاني لأحكام القانون المدني( ). ويؤدي اعتبار عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء عقد تجاري إلى أن ينطبق عليه الأحكام الخاصة بالالتزام التجاري دون تلك التي تترتب على صفة التاجر ، أي أن الذي ينطبق هو النظام الذي وصفه القانون خاصاً بالعمل التجاري وليس النظام الخاص بشخص التاجر ، وهذا يرجع إلى الظروف التي فيها يبرم العقد التجاري وتنفذ الالتزامات الناشئة عنه ، ولاسيما أن بعضها يرجع إلى العرف التجاري وما يقرره ، وهذه الظروف تقوم على اعتبارين مراعاة السرعة اقتصاداً للوقت وتقوية الثقة في المعاملات التجارية ( ).
المطلب الثالث
تمييز التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء مما يشتبه به
إن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء لا يختلف من حيث طبيعته عن سائر أنواع التأمين الأخرى ، إلاّ أن هناك بعض الأوضاع القانونية تشتبه به وتختلط معه ، لذا ارتأينا في هذا المطلب أن نميز هذا التأمين عن غيره وكما يأتي:
1. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء وتأمين الأشياء
إن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء وتأمين الأشياء كليهما تأميناً من الإضرار، إلاّ أنهما يختلفان ، حيث أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء غايته جبر الضرر الذي لحق بذمة المؤمن له من جراء رجوع الغير عليه عما لحقه من ضرر ( )، فهو ضمان لعدم افتقار ذمته المالية من جراء التزاماته تجاه الغير ، اذن فهو تأمين ضد الديون او
الخسارة .
أما تأمين الأشياء يقوم على ضمان لشيء مملوك للمؤمن له ومحله ما للمؤمن له من أموال ، فالمؤمن له هو المستفيد على خلاف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يكون الغير المستفيد من العقد ، كما أن التأمين على الأشياء محله منصب على شيء معين بالذات أو قابل للتعين عند تحقق الخطر كالتأمين على بضاعة توجد في مخزن معين( ).
2. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء والتأمين من الإصابات
التأمين من الإصابة( ) عقد بمقتضاه يتعهد المؤمن في مقابل دفع أقساط التأمين بان يدفع للمؤمن له أو المستفيد في حالة ثبوت موت المؤمن له أو في حالة إصابته بدنياً يترتب عنها موته أو عجزه سواء أكان العجز كلياً أو جزئياً دائمياً أو مؤقتاً مع تسديد مصروفات العلاج كلها أو بعضها ( ). إلاّ أن التزام المؤمن بتسديد مبلغ التأمين يختلف باختلاف الإصابة من حيث جسامتها وما يترتب عليها من نسبة عجز وفق جدول معين يعتمده المؤمن عند تقدير التعويض . فالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو تأمين من الأضرار في حين أن التأمين من الإصابة هو تأمين على الأشخاص( ). كما أن التأمين الذي يضمنه التأمين من الإصابات التي تقع على المؤمن له من الغير في حين أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو تأمين المؤمن له مما يلحقه من ضرر يصيب ذمته المالية( ).
3. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء واتفاقات الإعفاء من المسؤولية
تعد الاتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية بمثابة عقد صلح( ) يتم بين المتضرر والمسؤول بعد وقوع الضرر ، وهذه الاتفاقات تكون صحيحة بغض النظر إذ كانت في نطاق المسؤولية التقصيرية أو العقدية ، وبموجب هذه الاتفاقات يتفادى الطرفان أي خصومه قد تقع مستقبلاً تتعلق بالضرر الواقع ويمكن أن تنهض لولا هذا الاتفاق( ).
وعليه فان هذه الاتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية تتولى تنظيم آثار المسؤولية على غير وجهها الذي نظمت عليها في القانون( ). فبالرغم من التشابه بينهما في ان المسؤول في رفع الضرر بخصوص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو المؤمن أي لا يتحمل المسبب الضرر ، وكذلك الحال في اتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية التي بموجبها أيضاً ولا يتحمل المتسبب الضرر ، لأنه قد أعفي ، فضلاً عن ذلك فان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ينفرد باعتباره تأميناً من المسؤولية بطبيعته خاصة التي تميزه عن اتفاقات الإعفاء من المسؤولية ، وذلك في الدور الذي يقوم به المؤمن ، حيث يفترض اجتماع عدد من الأشخاص يعدون لمواجهة الخطر الذي قد يتعرضون إليه جميعاً بالمساهمة في تعويض الخسارة التي قد تحدث ، فالمؤمن يعد وسيطاً في إدارة الأموال التي يجمعها من الأقساط التي يسددها المؤمن له( ) ، ولكن الاختلاف بين التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء واتفاقات الإعفاء من المسؤولية جلياً من حيث الطبيعة القانونية والأثر القانوني .
فمن حيث الطبيعة القانونية ، أن التأمين يتسم بصفة الاحتمالية فيتوقف تنفيذ العقد بالنسبة للمؤمن على حادث غير مؤكد الوقوع ، لان التزام المؤمن بأداء مبلغ التأمين يتوقف على وقوع الخطر ، في حين لا مجال لهذه الخاصية في الإعفاء من المسؤولية ، فضلاً عن أن الأول يعدّ من عقود الإذعان ، أما الثاني فإن صفة الإذعان ليست من طبيعته ولا من مستلزماته ، ولان المتعاقدين لهما كامل الحرية في تحديد شروط الاتفاق باعتباره عقد مفاوضة أو مساومة( ). أما من حيث الأثر يحصل المضرور على التعويض في التأمين ، بينما في الثاني يحرم منه( ).
4. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء والاشتراط لمصلحة الغير
يعدّ الاشتراط لمصلحة الغير عقد بموجبه يشترط أحد الطرفين على الآخر أن يؤدي إلى شخص ثالث حقاً معيناً ( )، وعليه فإن الاشتراط لمصلحة الغير نظام قانوني لأنه عقد في تكوينه لا يهم سوى أطرافه ، أما آثاره أو نتائجه يتعداها إلى طرف ثالث ، الذي يستفيد من عقد لم يكن طرفاً فيه ويحصل على مزاياه ( ).
يستلزم الاشتراط لمصلحة الغير ثلاثة شروط ( ).
أولها ، أن يكون المشترط قد تعاقد باسمه هو لا باسم المنتفع ، ثانيها ، أن يشترط على المتعهد حقاً مباشراً للمنتفع ، وثالثها ، للمشترط مصلحة شخصية في إشتراطه .
وبالرغم من اوجه الشبه بين التأمين والاشتراط لمصلحة الغير ، إلاّ أن إبرام عقد التأمين لا يقصد مصلحة المتضرر ، وإنما غايته الحصول على المزايا المتمثلة في جبر الضرر الذي سيلحقه وليس إزالة الضرر باعتباره مؤمن له ، وتعد مصلحة الغير بعيدة كل البعد عن ذهنه عند الإقدام على إبرام العقد( ) ، لأن عقد التأمين من عقود المعاوضة وليس من عقود التبرع ، كما هو حال الاشتراط لمصلحة الغير( ).
بعد الانتهاء من بيان المقصود من عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من خلال توضيح مزاياه وخصائصه ، فضلاً عما يميزه عن غيره من أوضاع قانونية تشتبه به ، فيستلزم الأمر بنا بيان آلية إبرام العقد وهذا ما سيكون محل البحث في المبحث القادم .
المبحث الثاني
آلية إبرام عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
أن عقد التأمين كغيره من العقود يتطلب عند إبرامه توافر أركانه من رضا ومحل وسبب ، ولما كان لهذا العقد خصوصية معينة لذا فان الأمر الذي يتطلب اتخاذ سلسلة من الإجراءات عند إبرامه ، فعلى الرغم من ان أركانه تخضع للقواعد العامة ، إلاّ أن العمل قد جرى ، على تبلور الرضا في عقد التأمين بأنواعه كافة بصورة معينة وعلى مراحل متعددة . ولهذا سيتم تناول هذه المراحل بالبحث وبالتعاقب من الناحية القانونية مع الأخذ ينظر الاعتبار والنواحي الفنية التي تعد من خصوصية هذا العقد من خلال تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين يخصص أولهما التراضي وكيفية التعبير عن الإرادة وثانيهما يمثل محل العقد المتمثل بالخطر المراد ضمانه ، أما بخصوص السبب ، فإن الأمر يترك للقواعد العامة ، إذ لا يوجد ما يقال فيه من جديد .
المطلب الأول
التراضي في التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
عند الرجوع إلى الأحكام العامة في القانون المدني المتعلقة بعقد التأمين عموماً ، يتبين بأن عقد التأمين عقد رضائي كغيره من العقود ، إذ ينعقد بمجرد توافق الإيجاب مع القبول ، أي تطابق إرادتين صادرتين عن طريق التعاقد دون حاجة لإفراغ التراضي بشكل معين ، وإذا كان العمل قد جرى على تفريغ هذا التراضي في صيغة مكتوبة غير أن هذا لا يمنع من انعقاد العقد بطريقة أخرى ، طالما لا توجد أية صعوبة بإثباته( ) . إذ إن اشتراط الكتابة إنما يكون لمجرد إثبات العقد ، بيد أنه ليس ثمة ما يمنع المتعاقدين من اشتراط تعليق انعقاد العقد على التوقيع على المحرر المثبت له ، ما دام لا يخالف النظام العام ، فضلاً عن استخلاص قصد المتعاقدين من هذا الشرط أمر متروك لقاضي الموضوع( ).
إن وجود الرضا يقتضي وجود الإرادة ، فإذا انعدمت الإرادة لأي سبب كان لا يمكن أن يتوفر الرضا ، وبالتالي لا ينعقد العقد الذي يعد في حكم العدم ، وهذا لا يخرج عن نطاق القواعد العامة .